مقدمة
يقول الله تعالى في محكم كتابه “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” (سورة الروم: ٢١).
هذه الآية العظيمة لا تُحدّثنا فقط عن أصل العلاقة الزوجية، بل تُزيح الستار عن حقيقة جوهرية: الودّ والرحمة بين الزوجين هبةٌ إلهيةٌ عظيمة، ومسؤوليةٌ سلوكيةٌ إنسانية.
الودّ: هبة إلهية ونعمة تستوجب الشكر
* “وَجَعَلَ”: الفعل “جعل” هنا دليل على الخلق والإيجاد والإلهام. فالله سبحانه وتعالى هو الذي غرس في قلوب الزوجين بذرة المودة الفطرية الأولى، هذه المشاعر الدافئة والتآلف الطبيعي الذي يجذب الأرواح لبعضها. إنها نعمةٌ من نعم الله التي تستوجب الحمد والشكر والاعتراف بالمنّة.
* “مَّوَدَّةً”: المودة أعمق من الحب العابر؛ فهي المحبة المصحوبة بالرقة واللين والعطف والاستئناس. إنها الشعور الذي يجعل القلب يأنس بالآخر ويطمئن إليه.
* “وَرَحْمَةً”: وهي سمة تتجاوز المشاعر إلى السلوك العملي؛ فهي العفو عند المقدرة، والصبر على الهفوات، والتسامح، والرفق، والرعاية في الشدائد، والوقوف بجانب الآخر في الأزمات.
كذلك هي الحصن الذي يحمي العلاقة من قسوة الظروف ومرارة الأيام وحدّة الخلافات.
الودّ: مسؤولية سلوكية وتكليف للإنسان
لم يقل تعالى “وخلق بينكم مودة ورحمة”، بل قال “وَجَعَلَ”. وهذا يفتح الباب لفهمٍ أعمق؛ فالودّ الذي أودعه الله في القلوب ليس مشاعر تُنتَظر فحسب، بل هو طاقة إيجابية تستدعي الفعل والسلوك. فالمودة هبةٌ تُستثمر وتنمّى بالممارسة وبذل الجهد.
1. الودّ اختيار يومي: وضع الله بذرة المودة في القلوب، لكن رعايتها وتنميتها مسؤوليتنا.
ويتجلّى الودّ الحقيقي في:
* الكلمة الطيبة
قال تعالى {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (البقرة: 83) -فكيف بالزوجة أو الزوج؟، فلا بد من اختيار الكلمات ونبرة الصوت المناسبة، وكلمات الشكر والتقدير، وتجنب الجرح والإهانة.
* الفعل الحاني
المتمثل بالمساعدة في البيت، الاهتمام بالتفاصيل التي تسعد الشريك، تلبية حاجاته، اللمسة الحنونة، نظرة التقدير. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم “خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ” (صحيح الترمذي).
* التسامح والرحمة
التغاضي عن الزلات والهفوات الصغيرة، المسارعة إلى العفو، المبادرة إلى الصلح، ومحاولة فهم الطرف الآخر ووضع النفس مكانه؛ لقوله تعالى {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (سورة النور: 22).
2. الرحمة سلوك عملي:
الرحمة الإلهية بين الزوجين تترجم إلى أفعال واقعية منها:
* الرعاية في المرض والضعف
من خلال كفالة حق الشريك في الرعاية الصحية والنفسية.
* التعاون في الأعباء
بالتشارك في مسؤوليات الحياة وتربية الأبناء، مما يُشعر الطرفين بالتآزر وخفَّة الحمل.
* العدل والإنصاف
في الحقوق والواجبات، وفي المعاملة حتى في لحظات الغضب.
* الصبر على المصاعب
من خلال تفهُّم أن الحياة الزوجية ليست وردية على الدوام، وونن خلال التسلح بالصبر والتحمل.
3. حفظ النعمة بالاستمرارية:
هبة الودّ والرحمة تحتاج إلى صيانة دائمة. وإهمالها بالجفاء، أو القسوة، أو الظلم، أو الإهانة، هو كفران للنعمة الذي يُقلِّل من بركتها أو يُفقدُنا إياها. لقوله تعالى {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌۭ} (سورة إبراهيم: 7).
لماذا جعل الله الودّ والرحمة؟
* “لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا”
الهدف الأسمى هو تحقيق السكينة؛ ذلك الاطمئنان العميق، والهدوء النفسي، والأمان العاطفي الذي يجعل البيت ملاذاً لنا من صخب العالم ووحشته. والودُّ والرحمة هما وقود هذه السكينة.
* “إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”
العلاقة الزوجية القائمة على الودّ والرحمة هي آية من آيات الله الدالة على حكمته ورحمته وعظمته.
فكيف يوفّق الله بين قلبين ويجعل بينهما هذا الإلف والمحبة والرأفة!؟. ففي هذه الآية الكريمة دعوة للتأمل في عظمة الخالق.
الآية الكريمة تضعنا أمام حقيقة سامية: وهي أن الودّ والرحمة بين الزوجين نعمة إلهية غرسها الله في قلوبنا، لكنها في ذات الوقت أمانة في أعناقنا. ففيها دعوة صريحة لما يلي:
* شكر النعمة؛ بالاعتراف بأن مصدر هذا الودّ الفطري هو الله تعالى.
* استثمار الهبة؛ بتحويل مشاعر الودّ إلى سلوك عملي يومي من كلمة طيبة، وفعل معين، وتسامح حقيقي، ورعاية ملموسة.
* حفظ الأمانة؛ بالالتزام بخُلُق الرحمة في المعاملة، والصبر، والعدل، والتعاون، حتى تتحقق السكينة وهي غاية الزواج في الإسلام.
خاتمة
العلاقة الزوجية الناجحة هي التي تدرك بأن الودّ شعورٌ أنعم به الله تعالى، وسلوكٌ يلتزم به العبد، لتبقى هذه الهبة الإلهية نابضة بالحياة، وشاهدة على رحمة الله بنا، وآيةً لقومٍ يتفكرون.