|

بين اليقين والتخطيط.. كيف تواجه الأسرة المسلمة الأزمات المالية؟

  • مقدمة

الأزمات المالية ليست نهاية الطريق، بل منعطف يُختبر فيه إيمان الأسرة وصبرها وحكمتها. يقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾[سورة البقرة: 155]. النقص في الآمال والطموحات واقع لا مفر منه، ولكن التعامل معه هو ما يُحدِّد مصير الأسرة وسلامتها.

الركيزة الأولى: التأسيس الإيماني والنفسي

قبل أي خطوة عملية، يجب بناء حصن نفسي قوي يحمي الأسرة من الذعر واليأس.

1. التعريف بالابتلاء:
تذكير جميع أفراد الأسرة أن هذه محنة من الله لتمحيص القلوب ورفع الدرجات، وليست عقاباً محضاً. قال رسول الله ﷺ: «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له» [رواه مسلم].

2. درع الصبر والرضا:
الصبر ليس مجرد انتظار، بل هو سلوك إيجابي. هو قبول القضاء مع السعي لتغيير القدر بالأسباب المتاحة.

3. القناعة كنز لا يفنى:
غرس قيمة القناعة في نفوس الأبناء والزوجة. عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» [رواه مسلم]. الكفاف هو ما يكفي حاجة الإنسان دون زيادة كبيرة.

الركيزة الثانية: الخطة العملية للتعامل مع الأزمة

بعد ترسيخ الطمأنينة في القلوب، تأتي مرحلة العمل والتدبير.

أولاً: التشخيص والموازنة
– نقاش الموضوع عائلياً: بشفافية وحكمة، يُشرح الوضع المالي للأسرة.
– إعداد قائمتين:
* قائمة الدخل: كل المصادر المتاحة (رواتب، مدخرات، استثمارات بسيطة).
* قائمة المصروفات: تقسيمها إلى:
_ ضروريات (إيجار، طعام، دواء، تعليم).
_ تحسينيات (أكل خارجي، ملابس جديدة، تسليات).
_ كماليات (سفر، أجهزة إلكترونية غير ضرورية).

ثانياً: خطة الطوارئ المالية
* الإلغاء لغير الضروريات: لكل المصروفات غير الضرورية (التحسينيات والكماليات) بشكل فوري.
* التفاوض: على الديون أو تأجيلها، أو البحث عن أقساط ميسرة.
* ترشيد الاستهلاك: شراء المستلزمات بكميات كبيرة إذا كان أرخص، التركيز على العروض، وإطفاء الأضواء غير الضرورية، وترشيد استهلاك الماء والكهرباء.

ثالثاً: البحث عن مصادر دخل جديدة
* توزيع الأدوار: يمكن أن تبحث الزوجة عن عمل من المنزل إذا كان ذلك متاحاً ومتوافقاً مع الضوابط الشرعية، أو يساعد الأبناء في أعمال بسيطة خلال الإجازات.
* الاستفادة من المهارات: تحويل الهوايات إلى مصادر ربح (كالخياطة، البرمجة، الكتابة، صناعة الحلويات، التصميم).
* بيع ما لا حاجة له: يمكن بيع بعض المقتنيات غير الضرورية في منصات بيع المستعمل.

الركيزة الثالثة: الأدوات الشرعية للتعافي

الإسلام لم يترك أمراً إلا وأوجد له مخرجاً:

1. الدعاء: كان من دعاء النبي ﷺ: «اللَّهُمَّ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وَأَغْنِنِي مِنَ الفَقْرِ» [رواه مسلم].
2. الصدقة: فهي تدفع البلاء وتزيد المال بركة. «داووا مرضاكم بالصدقة» [حسنه الألباني].
3. الاستغفار: قال تعالى عن نوح عليه السلام: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ [سورة نوح: 10-12].
4. التوكل على الله: الأخذ بالأسباب ثم الاعتماد الكامل على الله في تفريج الكرب.

أخطاء يجب تجنبها أثناء الأزمة

– اللجوء إلى القروض الربوية: فهي حرب من الله ورسوله، وتزيد الطين بلَّة.
– عدم الاستسلام للمشاحنات والخلافات: كإلقاء اللوم بين الزوجين؛ فهو بداية الانهيار، ولا بُد أن يكونا فريقاً واحداً.
– إخفاء الحقيقة: بأن يكون هناك شفافية بين الزوجين التي هي أساس للحل، فالإخفاء يولد الشك ويفكك الثقة.
– التوقف عن محاولة مجاراة الناس في نفقاتهم ومظاهرهم.

خاتمة: الأزمة فرصة لإعادة البناء

تذكر دائماً أن الرزق بيد الله، وأن ما نمر به من أزماتٍ مالية قد تكون باباً خفياً لبركات لم نكن نتخيلها: تقارب أسري أقوى، تعلم للقناعة، ابتكار في حل المشكلات، وتجرد للدعاء.
فلتجعل شعارك قوله تعالى: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [سورة البقرة: 216]. بتوكلٍ على الله، وتخطيطٍ حكيم، وقلوبٍ متآلفة، تخرج الأسرة من أزماتها أقوى وأكثر نضجاً وإيماناً مما كانت عليه.

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *