مقدمة
تمثل الأسرة الممتدة (الآباء، الأمهات، الأقارب) عصباً اجتماعياً مهماً في حياة الأفراد، ولا سيما الأزواج الجدد. فهي بمثابة شبكة الأمان والدعم المعنوي والمادي اهم. لكن هذا الدور يقف على حافة رفيعة؛ فخطوة واحدة إضافية قد تحوّله من داعمٍ ومستشار إلى متدخلٍ ومعرقِل.
يناقش هذا المقال هذا الدور الحيوي من خلال عدستي الشريعة الإسلامية والتحليل الاجتماعي، مبيناً حدود التدخل الإيجابي البنَّاء وآثار التدخل السلبي المدمر.
أولاً: التدخل الإيجابي.. سندٌ وعونٌ شرعي واجتماعي
ترى الشريعة الإسلامية والمبادئ الاجتماعية السليمة أن للأسرة الممتدة دوراً إيجابياً محورياً يمكن إجماله في:
1. النصح والحكمة (الإرشاد): يتمثل الدور الإيجابي في تقديم المشورة المستندة إلى الخبرة والحكمة، دون فرض للرأي. يقول تعالى: “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ” (سورة المائدة: 2). النصيحة التي تقدم باحترام وطلاقة، وليس كأمرٍ واجب التنفيذ، هي من التعاون على البر.
2. الدعم المعنوي والعاطفي: تقديم الدفء العاطفي والاستماع للأزمات دون تحيز لأحد الطرفين، مما يشعر الزوجين بالاحتواء والأمان. هذا الدور يجسد معنى الرحمة التي أمر بها الإسلام، لقوله تعالى “وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ” (سورة البلد: 17).
3. وساطة المصالحة عند الخلاف: هنا يظهر الدور الأكثر إيجابية، حيث يأمر الإسلام بالأخذ بيد الأزواج المتخاصمين إلى الصلاح. يقول تعالى: “وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا” (سورة النساء: 35). هذه الوساطة المبنية على الحكمة والعدل، وليس الانحياز، هي من أعظم صور التدخل الإيجابي.
4. الدعم العملي: المساعدة في رعاية الأطفال، أو في الأزمات المادية أو الصحية، مما يخفف الضغوط عن كاهل الأسرة الصغيرة ويساعد في استقرارها.
من الناحية الاجتماعية، فإن الأسر التي تتمتع بدعم إيجابي من الأسرة الممتدة تكون أكثر مقاومة للضغوط وأكثر استقراراً، حيث يوفر هذا الدعم مورداً نفسياً واجتماعياً لا يُستهان به.
ثانياً: التدخل السلبي.. اختراق للحدود وتهديد للاستقرار
عندما تتحول النصيحة إلى أمر، والدعم إلى وصاية، والوساطة إلى تحيز، يصبح الدور سلبياً ومهدداً. ومظاهر هذا التدخل من المنظورين الشرعي والاجتماعي هي:
1. التدخل في الخصوصيات واتخاذ القرارات
فرض آراء في أمور تخص الحياة بين الزوجين فقط، كطريقة الإنفاق، أو مكان السكن، أو عدد الأطفال. هذا التدخل يتعارض مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: “كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ” (رواه أبو داود). فالمسؤولية المباشرة هي على الزوجين، وهما الأجدر باتخاذ القرارات التي تناسبهما.
2. الانحياز والتعصب لأحد الطرفين
وهو من أخطر أنواع التدخل السلبي، حيث تتحول الأسرة إلى “طرف” في النزاع بدلاً من أن تكون “حَكَماً”. هذا يزيد الشقاق ويناقض صريح الآية الكريمة التي أمرت بالعدل حتى مع وجود هوىً ذاتي.
3. نقل الإشاعات والثرثرة (الغيبة)
يكون بعض أفراد العائلة جسراً لنقل الكلمات الجارحة والتعليقات السلبية بين الزوجين أو بين الأسرتين، مما يزيد التوتر. وهذا داخل في النهي الصريح عن الغيبة والنميمة، قال تعالى: “وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا” (سورة الحجرات: 12).
4. التدخل المفرط في تربية الأبناء
انتقاد أساليب التربية بشكل دائم ومحبط، أو محاولة فرض أسلوب تربية مختلف، مما يخلق صراعاً على السلطة داخل البيت ويربك الأبناء.
اجتماعياً، يؤدي هذا التدخل إلى:
– تقويض استقلالية الأسرة الجديدة؛ وتمكينها من بناء هويتها الخاصة.
– زيادة التوتر والقلق للزوجين، وشعورهما بعدم الكفاءة.
– تفاقم الخلافات البسيطة؛ وتحويلها إلى أزمات عائلية كبرى.
– إضعاف روابط الزوجين؛ وإشاعة جو من عدم الثقة بينهما.
ثالثاً: كيف نضع الحدود؟ توجيهات شرعية واجتماعية
لتحقيق التوازن، يجب وضع حدود واضحة:
* من منظور الشريعة: يضع الإسلام حدوداً واضحة للعلاقات، منها وصية النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: “اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا” (متفق عليه).
وهذا يقتضي من الرجل أن يحمي زوجته من أي تدخل سلبي يضر بها أو بكرامتها. كما أن بر الوالدين لا يعني الطاعة العمياء في معصية أو في تدخل غير محمود.
* من منظور اجتماعي: على الزوجين؛
1. بناء جدار عاطفي واقٍ: بالامتناع عن إشراك الأهل في كل الخلافات البسيطة، وحل المشاكل بينهما أولاً بأول.
2. التواصل بوضوح واحترام: بشكر الأهل على نصائحهم وتوضيح أن القرار النهائي يعود لهما، بلطف وحكمة.
3. تعزيز الاستقلالية: باتخاذ القرارات الخاصة بهما وبناء حياة مشتركة مستقلة، مما يرسخ مكانتهما كأسرة قائمة بذاتها.
خاتمة
الأسرة الممتدة شجرة عطاء، ظلها يحمي الأسرة الصغيرة من صعوبات الحياة. لكن جذور هذه الشجرة يجب ألاّ تخنق النبتة الصغيرة التي تنمو تحتها.
الفرق بين التدخل الإيجابي والسلبي هو الفرق بين أن تكون سنداً وبين أن تكون عبئاً، بين أن تبني وبين أن تهدم. باتباع توجيهات الشريعة السمحة التي تحث على التعاون والاحترام ووضع الحدود، وبالوعي الاجتماعي الذي يدرك أهمية الاستقلال، يمكن تحقيق التوازن المنشود الذي يصون خصوصية الأسرة الصغيرة مع الحفاظ على روابط المودة والاحترام مع الأسرة الممتدة.