| |

الطلاق في عصر التكنولوجيا.. تحذيرات شرعية وتحليل اجتماعي

مقدمة

أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي نافذة مفتوحة على العالم، لكنها تتحول في كثير من الأحيان إلى أداة تمزق نسيج الأسر وتقضي على استقرارها.

في السنوات الأخيرة، برزت بشكل لافت ظاهرة ارتفاع حالات الطلاق التي يكون السبب المباشر أو غير المباشر فيها هو الاستخدام السلبي لهذه الوسائل.

تبحث هذه المقالة جذور هذه الظاهرة الخطيرة، من خلال الكشف عن أبعادها الاجتماعية، وتسليط الضوء على التحذيرات الشرعية التي تُحذّر منها.

أولاً: مظاهر المشكلة.. كيف تتسبب الوسائل الاجتماعية في الطلاق؟

لا يحدث الطلاق بسبب الوسائل الاجتماعية بين ليلة وضحاها، بل هو عملية تراكمية تظهر عبر سلوكيات عدة:

1. الغيرة المرضية والمراقبة المستمرة: تحولت المنصات إلى أدوات للمراقبة والتجسس، حيث يتابع أحد الزوجين كل تفاصيل الطرف الآخر (تعليقات، إعجابات، صداقات جديدة)، مما يولد شكوكاً لا أساس لها وغيرة مفرطة تتحول إلى مشادات يومية.
2. إهمال الواجبات الأسرية: إدمان أحد الزوجين على التصفح أو اللعب أو التفاعل مع المتابعين لساعات طويلة، على حساب قضاء الوقت مع الشريك والأبناء، مما يشعر الطرف الآخر بالإهمال العاطفي والاستياء.
3. العواطف الافتراضية والخيانة: تمثل الوسائل بيئة خصبة لبدء علاقات خارج إطار الزواج، تبدأ بصداقة عابرة أو محادثة بريئة ثم تتطور إلى علاقة عاطفية قد تنتهي بالخيانة وانهيار الحياة الزوجية.
4. المقارنة المدمرة: مشاهدة حياة الآخرين المثالية والمزيفة على “إنستغرام” أو “سناب شات” يولد شعوراً بعدم الرضا عن الشريك والحياة المشتركة، والتركيز على النقائص بدلاً من نعم الله.
5. الفضاء المفتوح للصراع: تحولت النزاعات البسيطة التي كان من الممكن حلها بحكمة بين جدران المنزل إلى معارك علنية عبر “الواتساب” أو منشورات الغضب على “فيسبوك”، مما يجعل المصالحة أصعب ويوسع دائرة الخلاف.

ثانياً: التحذيرات الشرعية ونظرة الإسلام للمخاطر

لم تغفل الشريعة الإسلامية عن مصادر الفتنة، ومنعت كل ما يؤدي إلى هدم الكيان الأسري، ومن هنا جاءت تحذيراتها صريحة:

1. حرمة إضمار السوء والظن: ينهى القرآن الكريم عن الظن السيء، الذي هو وقود معظم مشاكل الوسائل الاجتماعية: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ” (سورة الحجرات: 12). المراقبة المستمرة وحصد الأدلة من صفحات الآخرين هي تجسيد عملي لهذا الظن المحرم.
2. غض البصر كخط دفاع أول: أمر الله تعالى الرجال والنساء بغض البصر، وهو أمر يشمل حماية النظر في العالم الواقعي والافتراضي: “قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ… وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ” (سورة النور: 30-31). التصفح العشوائي ومشاهدة ما لا يحل هو بوابة الشيطان إلى القلب والبيت.
3. تحريم الخلوة والاختلاط المحرم: تحذر السنة النبوية من الاختلاط غير المشروع والخلوة بأجنبي، وهي أمور تسهلها الدردشات الخاصة والمجموعات المغلقة. قال صلى الله عليه وسلم: “لا يخلون رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما” (رواه الترمذي).
4. الحفاظ على الأسرار والحياء: إشاعة الخلافات الزوجية والحديث عن تفاصيل الحياة الخاصة على الملأ يناقض قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا” (رواه مسلم).

ثالثاً: التحليل الاجتماعي.. بيئة خصبة للأزمات

* تفكك الروابط المجتمعية: مع ضعف العلاقات الحقيقية، يلجأ الأفراد إلى العالم الافتراضي لتعويض النقص العاطفي، مما يجعلهم أكثر عرضة للاستغلال العاطفي والعلاقات غير الصحية.
* ثقافة الاستهلاك والمقارنة: تعزز المنصات ثقافة استهلاكية سطحية، حيث تصبح قيمة الإنسان بمقدار متابعيه ومظهره، مما يضع ضغوطاً هائلة على الأسر التي لا تستطيع مجاراة هذا النمط.
* غياب التربية الرقمية: نعيش في عصر  الحضارة، لكن التربية على الاستخدام الآمن والمسؤول للتقنية لا تزال غائبة في كثير من البيوت، مما يترك الأفراد دون مناعة ضد مخاطرها.
* الاستعداد النفسي المسبق: قد يكون لدى أحد الزوجين استعداد نفسي للإدمان أو الهروب من مشاكل الواقع، فوجد في الوسائل الاجتماعية المخرج السهل، الذي يفاقم المشاكل بدلاً من حلها.

رابعاً: مواجهة التحدي بالوقاية والعلاج

* الوقاية الشرعية: بتطبيق تعاليم الإسلام في غض البصر، وحفظ اللسان، والالتزام بآداب الاجتماعات الافتراضية، وإشاعة الثقة والشفافية بين الزوجين.
* التربية الرقمية: تنمية الوعي النقدي لدى أفراد الأسرة، وتعليمهم فن إدارة الوقت، ووضع قواعد عائلية لاستخدام التقنية (مثل منع الهواتف على مائدة الطعام، وتخصيص أوقات للصفح).
* تعزيز التواصل الواقعي: استعادة جودة الوقت الأسري، وممارسة هوايات مشتركة بعيداً عن الشاشات، لبناء ذكريات وروابط عاطفية حقيقية تكون سداً منيعاً ضد تأثير المواقع الافتراضية.
* اللجوء للمتخصصين: عند ظهور أول بادرة لإدمان أو شكوك مرضية، يجب اللجوء فوراً إلى مستشار أسري مسلم يفهم البعد الشرعي والاجتماعي للمشكلة، قبل أن تتفاقم وتصل إلى نقطة اللاعودة.

خاتمة

الوسائل الاجتماعية سلاح ذو حدين؛ فهي نعمة فيح التواصل والمعرفة إذا أُحسِنَ استخدامها، ونقمة ودمار إذا أسيء تطويعها. إن إنقاذ الأسر من هذا الخطر يحتاج إلى صحوة شرعية تذكرنا بحرمة البيوت وأسرارها، وإلى يقظة اجتماعية تدرك أن السعادة الحقيقية لا توجد في الهواتف، بل في جودة العلاقات التي نبنيها داخل حدود بيوتنا. حماية الأسرة مسؤولية جماعية، تبدأ بوعي الفرد، وتنتهي باستقرار المجتمع بأكمله.

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *